موقع السراج
الرد على مزاعم وجود أيات عنف في القرآن الكريم
آيات العقوبة...المعنى الحقيقيسورة 48 الآية 17
تقول الآية الكريمة: (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا) - سورة الفتح آية 17
تفسير الآية الكريمة
أولا فلنضع الآية في محتواها الحقيقي يقول تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا) - سورة الفتح الآيات من 11 الى 17
هذه الآيات تحكي قصة واقعة معيتة و هي كالآتي:
تتحدث الآية الكريمة عن الأعراب قاطني ضواحي المدينة و هم قبائل من العرب جهينة ومزينة وغفار وأشجع والدّيل وأسلم وآخرين و قد تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما استنفرهم عام الحديبية حين أراد السير إلى مكة معتمرا، وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد حربا، واعتلوا بأن أموالهم وأهليهم قد شغلتهم، لكنهم في حقيقة أمرهم كانوا ضعاف الإيمان خائفين من مقاتلة قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة وهم الأحابيش
لهذا فإن تخلفهم لم يكن لما أبدوا من الأسباب، بل لإعتقادهم أن الرسول صلى الله عليه و سلم والمؤمنين سيقتلون وتستأصل شأفتهم، فلا يرجعون إلى أهليهم أبدا، وزين لهم الشيطان ذلك الظن حتى قعدوا عن صحبته وظنوا أن الله تعالى لن ينصر محمدا صلى الله عليه و سلم وصحبه المؤمنين على أعدائهم بل سيغلبون ويقتلون وبلغ الأمر بهم أن قالوا: إن محمدا وأصحابه أكلة رأس (قليلو العدد) فأين يذهبون؟
و عندما عاد المسلمون سالمين طلب المتخلفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم قال الله تعالى: (يقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) فإن طلبهم الاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على ندمهم وإقرارهم على أنفسهم بالذنب، وأنهم تخلفوا تخلفا يحتاج إلى توبة واستغفار، فلو كان هذا الذي في قلوبهم، لكان استغفار الرسول نافعا لهم، لأنهم قد تابوا وأنابوا، ولكن الذي في قلوبهم، أنهم إنما تخلفوا لأنهم ظنوا بالله ظن السوء حيث ظنوا: (أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) أي: إنهم سيقتلون ويستأصلون، ولم يزل هذا الظن يزين في قلوبهم، ويطمئنون إليه، حتى استحكم وسبب ذلك أمران:
أحدها: أنهم كانوا (قَوْمًا بُورًا) أي: هلكى، لا خير فيهم، فلو كان فيهم خير لم يكن هذا في قلوبهم
الثاني: ضعف إيمانهم ويقينهم بوعد الله، ونصر دينه، وإعلاء كلمته، ولهذا قال: (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: فإنه كافر مستحق للعقاب (فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا)
و في آية لاحقة يقول تعالى: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) – سورة الفتح آية 15 بمعنى أنه سيأتي وقت هؤلاء القوم أنفسهم -الذين تقاعصوا عن صحبتك- سيطلبون منكم مصاحبتكم عندما تنطلقوا الى غنائم لا قتال فيها و بالفعل تحقق هذا بعد مرور ثلاثة أشهر فقط على صلح الحديبية عندما انطلق الرسول صلى الله عليه و سلم الى خيبر و انتصر بسهولة في هذا الوقت أيقن الجميع أنه بعد صلح الحديبية مع قريش فإن ليس خيبر وحدها و إنما المجتمع اليهودي كله - من تيماء و فدك و و ادي القرى و آخرون من شمال الجزيرة العربية - لن يستطيع مواجهة قوة المسلمين
و لهذا يحذر الله تعالى النبي صلى الله عليه و سلم من الإنتهازيين من سكان ضواحي المدينة حيث أخبره أنهم سيبادرون بمطالبتكم بالسماح لهم بمصاحبتكم في ما يظنون أنه نصر سهل و غنائم لا قتال فيها ليأخذوا نصيبا و هنا شرح الآية (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ) حيث حكم الله تعالى بعقوبتهم، واختصاص الصحابة المؤمنين بتلك الغنائم، شرعا وقدرا فعلى النبي صلى الله عليه و سلم أن يقوُلْ لهم: (لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ) إنكم محرومون منها بما جنيتم على أنفسكم، وبما تركتم صحبة الرسول صلى الله عليه و سلم أول مرة وقت الحديبية
ثم تأتي الآيتان التاليتان حيث يقول تعالى: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) – سورة الفتح الآيتان 16
بعد أن رفض سبحانه إشراك المتخلفين في قتال خيبر عقابا لهم على تقاعدهم عن نصرة الله ورسوله في الحديبية - أردف ذلك ببيان أن باب القتال لا يزال مفتوحا أمامكم، فإن شئتم أن تبرهنوا على مالكم من بلاء في ميدان القتال فاستعدوا فستندبون إلى مواجهة قوم أولى بأس قال بعض العلماء أنهم بنو حنيفه أصحاب مسيلمة الكذاب، وقال قتادة: هم هوازن وغطفان، وقال ابن عباس ومجاهد: هم أهل فارس، وقال الحسن: هم فارس والروم، قال ابن جرير: إنه لم يقم دليل من نقل ولا من عقل على تعيين هؤلاء القوم، فلندع الأمر على إجماله دون حاجة إلى التعيين
و كلمة (يُسْلِمُونَ) بمعنى أن يقبلوا العيش في سلام مع من حولهم و لا يجوز فهمها كإكراه على الإسلام لأنه أمر لا يقبله الله تعالى و أوضح ذلك في كثير من آيات القرآن الكريم
مثل قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) – سورة البقرة آية 256
و قوله جل شأنه: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُر) - سورة الكهف آية 29 و قوله تعالى في سياق الخطاب الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى? يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) – سورة يونس آية 99
وقد إستخدم النبي سليمان رضي الله تعالى عنه تعبيرا مشابها حيث قال: (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)
فسليمان عليه السلام لم يعني بـ (مُسْلِمِينَ) من يقيموا شعائر الإسلام و إنما المقصود متعايشين في سلام مع من حولهم (من كتاب التفسير العصري للقرآن الكريم – روح القرآن بقلم د. طارق عبد الحميد)
فإن صحح الأعراب خطأهم السابق و أجابوا داعي الله أثابهم على ما فعلوا جزيل الأجر وإن نكصوا على أعقابهم كما فعلوا من قبل فسيجزون العذاب الأليم
ثم تذكر الآية الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد ومنها ما هو لازم كالعمى والعرج ومنها ما هو عارض يطرأ ويزول كالمرض ما دون ذلك من الرجال المسلمين البالغين وجب عليهم المشاركة في القتال
هذه الآية تمنح فرصة ثانية لمن تخلف عن مصاحبة الرسول صلى الله عليه و سلم بسبب الجبن و عدم الثقة في نصر الله تعالى فالفرصة الأولى لم تكن حربا فعلية و إنما إستنتاج خاطيء منهم أن كفار قريش سيقاتلون المسلمين و يهزموهم
و لهذا فإن الآية الكريمة ليست دعوى للقتال و إنما هي حقيقة تتراوح بين :
سرد قصة حدثت فعليا في الماضي وقت صلح الحديبية حيث رفض الأعراب مصاحبة الرسول صلى الله عليه و سلم لأداء العمرة (و ليس للقتال) ظنا منهم أن كفار قريش و ما حولها من قبائل لن يتركوا المسلمين يعودون سالمين الى المدينة و سيقضون عليهم فجبنوا عن الذهاب معه صلى الله عليه و سلم
سرد أمر سيحدث في المستقبل (و هي حروب ستقع مستقبلا) حيث سيطالبون بالمشاركة في قتال قوي فإما أن يبرهنوا على صحة إسلامهم و إما أن يثبتوا أنهم منافقين...لا شيء آخر قيل عن هذه الحروب المستقبلية لهذا إختلف العلماء المسلمون فيما بينهم على الحروب المقصودة في الآيات لهذا فإن هذه الآية ليست دعوة مفتوحة للقتال و إنما هي نبوءة بحرب ضد قوة قوية قاهرة ستواجه المسلمين فإن أرادوا إثبات إيمانهم فعليهم القتال و إلا فسيثبتون أنهم منافقيون ومن ثم إستحقوا العقاب من الله تعالى (و لاحظ أن العقوبة من الله و ليست من المسلمين)
كيف تعتبر هذه الآية دعوة للحرب العدائية ضد قوى مسالمة...وكيف لإنسان أن يدعي أنها تدعو للقتال بينما لا يعرف العلماء يقينا أية حرب تعنيها الآية اليس من الممكن أن تكون حرب دفاعية و لا تنسى رجاء أن الحرب المذكورة هي ضد قوم (أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) فمن المنطقي أن نستنتج أنها لا يمكن أن تكون حرب عدائية فمن يطالب جنوده أن يشنوا حرب عدائية غير مبررة ضد قوم (قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) و من ثم لا يستطيع عاقل إتهام الآية بالدعوة للحرب ما لم يكن جاهلا باللغة العربية أو تحركة الكراهية و التحامل على الإسلام و أهله