دراسة تحليلية لعبقرية الاسلام في القضاء على العبودية/الرق
مظاهر عملية من حياة المسلمين في قضية الرق
اولا: في عهد النبي صلى الله عليه و سلم
- كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤاخي بين بعض الموالي وبعض الأحرار من سادة قريش: فآخى بين بلال بن رباح وأبي رُوَيحة عبدالله بن عبدالرحمن الخثعمي، وآخى بين زيد بن حارثة وعمه حمزة بن عبدالمطلب، وآخى بين خارجة بن زيد وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين وكانت هذه المؤاخاة صِلة حقيقيَّة، تَعدِل رابطةَ الدم، وآصرة النَّسَب، وتَصِل إلى حد الاشتراك في الميراث
زوَّج النبي صلى الله عليه و سلم بنت عمته السيدة زينب بنت جحش من مولاه زيد بن حارثة و كان يهدف إلى رفْع الرقيق من الوهدة التي دفعته إليها البشريَّة الظالمة إلى مستوى أعظم من سادة العرب من قريش، بل من أجل أن يَجتثَّ من المجتمع الجاهلي جذورَ العصبية الجاهلية، ويستأصل من الأمة العربية شأفة الافتخار بالأنساب
أرسل مولاه زيدًا على رأس جيش فيه الأنصار والمهاجرون من سادات قريش لقتال الروم في غزوة مؤتة، وولَّى ابنه أسامة بن زيد قيادة الجيش وكان تحت إمرته أبو بكر وعمر خليفتا الرسولِ صلى الله عليه وسلم فلم يُعط المولى بذلك مجرد المساواة الإنسانيَّة، بل أعطاه حتى القيادة والرياسة على الأحرار ووصى في ذلك إلى أن يقول عليه الصلاة والسلام: ((اسمعوا وأطيعوا، ولو استُعمِل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله تعالى))
رواه البخاري، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (8: 105)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في معصية (3: 130)
أعطى الموالي بذلك الحقَّ في أرفع المناصب كلها، وهو خلافة المسلمين ما دام كفؤًا لها وجديرًا بها وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يَستخلِف: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًّا، لولَّيتُه
في غزوة بدر أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الفداء من أسرى المشركين وأطلق سراحهم ، وأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأسرى في غزواته مجاناً ، منَّ عليهم من غير فداء وفي فتح مكة قيل لأهل مكة : اذهبوا فأنتم الطلقاء
وفي غزوة بني المصطلق تزوج الرسول أسيرة من الحي المغلوب ليرفع من مكانتها , حيث كانت ابنة أحد زعمائه , وهي أم المؤمنين جويرة بنت الحارث رضي الله عنها ، فما كان من المسلمين إلا أن أطلقوا سراح جميع هؤلاء الأسرى
أدَّى النبي صلى الله عليه و سلم عن جُوَيْرِيَة بنت الحارث ما كُوتبت عليه وتزوَّجها، فلمَّا سمع المسلمون بزواجه منها أعتقوا ما بأيديهم من السبي، وقالوا: (أصهار رسول الله) فأُعتق بسببها مائة أهل بيت من بني المصطلق
ورغَّب رسول الله في عِتق الأَمَةِ وتزوُّجها، فيُروى عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله: ( أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ) –
البخاري: (كتاب النكاح) لذلك نجد رسول الله يعتق ام المؤمنين السيدة صفيَّة بنت حُيَيِّ بن أخطب ويجعل عتقها صداقها
وأورد ابن سعد في الطبقات الكبرى كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأم أيمن : "يا أمّه" (الطبقات الكبرى لابن سعد – الجزء الثامن - تراجم أمهات المؤمنين) .. أي تشريف وأي مقام رفيع بلغته جارية في أمة من الأمم مثلما بلغت أم أيمن رضي الله عنها ؟ لقد رفعها النبي عليه السلام إلى مقام أمه
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، سَمِعَ سَلاَّمَ بْنَ مِسْكِينٍ، قَالَ سَمِعْتُ ثَابِتًا، يَقُولُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ ـ رضى الله عنه ـ قَالَ خَدَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ. وَلاَ لِمَ صَنَعْتَ وَلاَ أَلاَّ صَنَعْتَ. (البخاري - كتاب الأدب - باب حُسْنِ الْخُلُقِ، وَالسَّخَاءِ، وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الْبُخْلِ)
عن انس رضي الله عنه قال: إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت. (رواه البخاري)
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ خَادِمًا لَهُ وَلاَ امْرَأَةً وَلاَ ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا (سنن ابن ماجه – صحيح – حديث رقم 1984)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِي ِّ ـ رضى الله عنه ـ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ ". قَالَ سُفْيَانُ وَالْعَانِي الأَسِيرُ. (رواه البخاري – كتاب الاطعمه)
ثانيا: في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم جميعا
- انطلق التاجر الصدوق الأتقى ابو بكر رضي الله عنه يُنفق أمواله بسخاء لاستنقاذ هؤلاء المعذَّبين من أيدي مجرمي مكة، فجعل جُلَّ اهتمامه في البداية مع واحد من أشدهم تعذيبًا وألمـًا؛ وهو بلال بن رباح رضي الله عنه، وكان عبدًا لأمية بن خلف الجمحي، فذهب الصدِّيق رضي الله عنه إلى أمية يعرض شراء العبد المعذَّب طلب أمية بن خلف ثمنًا مبالَغًا فيه في عُرف زمانهم لكنه كان لا يُريد للصفقة أن تفشل، وقَبِل أمية بن خلف وباع العبدَ بلالاً رضي الله عنه، فأعتقه الصديق رضي الله عنه على الفور و لم يكتف ابو بكر رضي الله تعالى عنه فانطلق يشتري المزيد من العبيد المعذبين ويعتقهم لوجه الله
- خرج عمر رضي الله عنه من المدينة إلى بيت المقدس ليتسلم مفاتيحها من البطريرك صفرونيوس عقِب حصارها بجيش أبي عبيدة بن الجراح، صحِب معه غلامه، ولم يشأ أن يأخذ من بيت المال إلا ناقة واحدة لسفرهما، وقسَّم المراحلَ بينه وبين الغلام، فكانا يتناوبان ركوبَ الناقة الواحد بعد الآخر، يركب هو مرحلة، ويسير الغلام وراءه، ثم يركب الغلام المرحلة التالية، ويسير عمر وراءه، إلى أن اقتربا من بيت المقدس، وكان الدور للغلام، فعرض الغلام على عمر أن يركب هو ويسير الغلام وراءه؛ حتى يدخلا البلدَ على الوضع اللائق بخليفة المسلمين، فأبى عمرُ إلا أن يركب الغلام ويسير هو وراءه، ودخلا بيتَ المقدِس على هذه الحال
- كان عثمان ابن عفان رضي الله عنه كل يوم جمعة يشتري العبيد لغرض جعلهم أحرارًا ، وأنه على الرغم من أنه كان غنيًا كان غالبًا بدون خدم بسبب هذه العادة
و سنكتفي بهذه الامثلة الكفيلة ان تعطي صورة واضحة لكيفية تعامل المسلمين مع العبيد
ثالثا: شهادة غير المسلمين
يقول جوستاف لوبون في "حضارة العرب" (ص459-460) : (الذي أراه صادقاً هو أن الرق عند المسلمين خير منه عند غيرهم، وأن حال الأرقاء في الشرق أفضل من حال الخدم في أوروبا، وأن الأرقاء في الشرق يكونون جزءاً من الأسرة... وأن الموالي الذين يرغبون في التحرر ينالونه بإبداء رغبتهم.. ومع هذا لا يلجأون إلى استعمال هذا الحق)