موقع السراج
إخلاصه وصدقه
(أ) إن إخلاص الرجل العظيم هو أمر لا يمكنه التحدث عنه ومع ذلك
فإنني أعتقد أنه كان مدراكا لمعنى عدم الإخلاص والصدق . فهل هناك أي رجل يمكن أن
يلزم نفسه بالصدق والإخلاص ليوم واحد ؟ أبدا فالرجل العظيم لا يتباهى بالصدق
والإخلاص ولا يدعيهما لنفسه على العكس من ذلك فهو لا يسأل نفسه حتى ما إذا كان
مخلصاً وصادقاً أم لا . بل إنني أميل إلى القول بأن صدقه وإخلاصه لا يعتمدان على
ذاته ونفسه وأنه ما كان يستطيع أن يكون إلا صادقاً ومخلصاً " أ . هـ ( الأبطال
وعبادة الأبطال ص 59 ) (ب) الروح العظيمة
الصافية : فقد كان واحداً من هؤلاء الذين لا يستطيعون إلا أن يكونوا في جد دائماً
هؤلاء الذين جبلت طبيعتهم على الإخلاص بينما يتخذ الآخرون من الأقوال المأثورة والصيغ
الدينية مرشداً لهم في طريقهم فلم يقم هذا الرجل بإحاطة نفسه داخل إطار من
الأقوال والصيغ الدينية ولكنه تفرد مع روحه ومع حقيقة الأشياء يستمد منها ما نطلق
عليه الإخلاص شيء يملكه أسمى من طبيعة البشر فقد كانت كلمة هذا الرجل صوت ينبعث
مباشرة من قلب الفطرة نفسها . فإن الناس يصغون إليها كما لا يصغون إلى شيء آخر
وحري بهم أن يفعلوا فكل ما عدا هذا إنما هو بالمقارنة إليه هباء ومنثوراً "
( الأبطال وعبادة الأبطال ص 71 )
ولم يكن بوسع كارلايل أن يجد الفرصة في خلال
حديثه الطويل إلى مستمعيه لكي يخبرهم عن المصادر التي استقى منها استدلالته
واستنتاجاته . وسوف أسرد عليكم مجرد حادثة واحدة من حياة النبي وهي حادثة تعكس
الدرجة العالية التي وصل إليها إخلاصه ( صلى الله عليه وسلم ) في تسجيل الوحي
القرآني إليه حتى ولو بدا أن القرآن يؤنبه بسبب بعض حماسته الطبيعية والبشرية
الذكر كما أنزل
صمت الرسول المبارك صلى الله عليه وسلم بينما
الأفكار تدور في عقله بلوم الأعمى عن عدم صبره الذي قد يتسبب في عدم إقناع هذا
الرئيس وقد تؤدي إلى عدم دخوله الإسلام أعتقد أن هؤلاء الرجال قليلي الأهمية مثل
هذا الأعمى لا يحق لهم السؤال في مثل هذه الأحوال
ألم يختاره الله سبحانه وتعالى وشرفه بهذه الآيات المسجلة في القرآن الكريم
" وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ "
( القلم : 4 ) عبس وتولى He Frowned
وبالطبع فإن الرسول الكريم صلى الله عليه
وسلم لم يحب مقاطعة الأعمى للمحادثة ومن الطبيعي أيضا أن تكون مشاعر هذا
الرجل الفقير قد جرحت . ولكن صاحب القلب الكريم المتعاطف مع الفقراء أوحي إليه من
ربه في هذا الأمر . وبدون أدنى تردد قام على الفور بنشر هذه الآيات على الجميع
لتحفظ إلى الأبد وفي كل مرة كان يقابل هذا الأعمى كان يتلقاه
باللطف والرأفة وبالشكر لأن ربه قد عاتبه فيه . وقد قام الرسول الكريم بتولية عبد
الله بن أم مكتوم على المدينة مرتين أثناء غيابه عنها ( في الغزوات والحروب ليقيم
الصلاة بها ) هكذا كان الإخلاص والعرفان بالجميل لنبي كارلايل البطل محمد صلى
الله عليه وسلم
[1] وما يدريك يا محمد أن هذا الكافر
سوف يزكي ويدخل في الإسلام إنه في علم الغيب والأمر موكل إلى الله ولقد حدثت
واقعة أخرى قريبة من تلك عندما اتفق مبدئياً كفار قريش وصناديدها مع الرسول على أن
يجعل لهم يوماً يجلسون معه فيه ويجعل للفقراء والعبيد يوم خاص بهم وكان هذا شرط
لإيمانهم وقد كاد يميل قلب الرسول لهذا الاقتراح فعاتبه ربه على ذلك وطلب منه أن
يترك هذا الاقتراح فالمسلمون سواسية كأسنان المشط وقال تعالى في هذا العتاب ( لَقَدْ
كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ، إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ
وَضِعْفَ الْمَمَاتِ )
[2]
كان ذلك في مكة في الأيام الأولى للدعوة وكان
محمد صلى الله عليه وسلم في محاولته لكسب رؤساء قبيلة ( قريش ) تعاليم الإسلام وفي
أثناء حديثه مع أحد هؤلاء الرؤساء والذي كان يتظاهر بالإصغاء إليه حاول رجل أعمى
يُدعى عبد الله بن أم مكتوم أن يتدخل في المناقشة محاولاً بذلك جذب الانتباه إليه (
[1]
وفي عرض هذه المناقشة مع رجال القبائل
أرسل الله سبحانه وتعالى إليه جبريل الملاك المنوط بالوحي بهذه الآيات الكريمة
" عَبَسَ وَتَوَلَّى ، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ
يَزَّكَّى ، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى " ( عبس 1 - 4 ) (
[2])
لم
يكن غرض بن أم مكتوم الذي نزلت فيه هذه الآيات هو لفت الأنظار ولكنه كان يريد أن
يسأل عن شيء مهم من أمور الدعوة .. ولقد عاتب القرآن النبي محمد في سورة ( عبس ) لانصرافه
عنه وصرف وجهه إلى صنديد الكفر رغبة منه في دخوله في الإسلام .. فاعتبر القرآن ذلك
أنه لا حاجة له في تمني دخولهم الإسلام ولكن المسلمين الذين جاءوا إليك أولى بهذا
الاهتمام
سوف
أكمل تلك الآيات التي نزلت بخصوص هذا الشأن حتى تتوضح المعاتبة للنبي وطلب ألا
يصرف وجهه عن المسلم الذي سأله لمجرد رغبته في إيمان كافر لا يدري هل سيؤمن بعد
هذه الدعوة أم لا فأمره موكل إلى الله قال تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى ، أَنْ
جَاءَهُ الْأَعْمَى ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ، أَوْ يَذَّكَّرُ
فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ، وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ، وَهُوَ يَخْشَى
، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ، كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ
)