موقع السراج

Alsiraj Banner Image

حب الوطن في الإسلام

Patriotism and Islam

حب الوطن امر فطري لا يحتمل النقاش او الإثبات. لكن من ظهور دعوات غريبة تدعي ان حب الوطن لا يعتبر مقبولا دينيا و لا يصح ان نرتبط بحدود وضعتها قوى الإحتلال الى اخر ذلك من الدعاوى الشاذة التي صرنا نسمعها

الغرض الحقيقي من نشر هذه الدعوات الخبيثة هي خلخلة الجذور العميقة التي تربط الإنسان بوطنه فيصبح ولائه قابل للتوجيه تجاه مشايخهم و افكارهم الغريبة فهي طريقة خبيثة للسيطرة على العقول و إيهامها بالأفكار الغريبة و من ناحية اخرى يحاول اصحاب هذا الفكر الغريب ادعاء ان رفض فكرة الوطن من اساسيات الدين و اختلاق تعارض غير منطقي بين حب الدين و الولاء للوطن و كأنهما امران متعارضان و من ثم يسقط المصدق في شباكهم و يصبح الولاء للجماعة اكبر و اهم من الولاء للوطن وكأن الجماعة هي الإسلام و كأن حب الوطن خيانة للدين

لهذا ارتأينا ان بحث الأمر و نعرض رأي الدين من قرآن كريم و سنة مطهرة و كذلك آراء علماء الدين الأفاضل –من يستحقون لقب علماء الدين- و ليسوا من مدعي العلم و أصحاب الأطماع و الولائات السياسية المختلفة

أولا: حب الوطن في القرآن الكريم

في سورة النساء قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ) – سورة النساء الآية 66 فجعل الله تعالى قتل النفس مساوي لمفارقة الوطن فالله تعالى يبين ان مفارقةالإنسان وطنه تعادل مفارقة الروح للجسد و انهما من اشق الأمور على الإنسان

فسر بعض العلماء قوله تعالى في سورة البقرة الآية 191: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ) بأن الفتنة هي الإخراج من الوطن لأنها جاءت بعد قوله تعالى (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) – (مرقاة المفاتيح كتاب الجهاد)

ومن هنا جاءت عظم تضحية المسلمين عندما خرجوا للهجرة فتركوا ديارهم و فروا تمسكا بدينهم الذي ارتضوه بكامل ارادتهم الحرة فلو ان حب الوطن شيء مذموم ما امتدح الله تعالى تضحيتهم و ما اعتبر خروجهم للمدينة تضحية من الأساس يقول تعالى: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) – سورة آل عمران الآية 195

و قوله سبحانه: عن الذين يحاربون الدين وينشرون الفساد في الأرض: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) – سورة المائدة آية 33. قال الشافعي: يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلاناً وذلاً.

ثانيا: حب الوطن في السنة النبوية المطهرة

جاء في البخاري ومسلم في قصة بداية نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهابه إلى ورقة بن نوفل، وقول ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم: ليتني أكون معك إذ يخرجك قومك
فقال صلى الله عليه وسلم: (أوَ مخرجي هُمْ؟)
يقول السهيلي: يؤخذ منه شدة مفارقة الوطن على النفس، فإنه صلى الله عليه وسلم سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك، فلما ذكر له الإخراج تحركت نفسه لذلك، لحب الوطن وإلفه

عن عبدالله بن عدي بن الحمراء لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال: " أمَا والله لأخرج منك، وأني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلىَّ، وأكرمه على الله ، ولولا أن أهلك أخرجونى منكِ مَا خرجت" - رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه

ولما جاء الصحابة رضي الله عنهم إلى المدينة أصابتهم الحمى حتى بلغت ببعضهم إلى الهذيان من شدتها، تروي أم المؤمنين عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وَصَحِّحْهَا ، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا ، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ) ( أخرجه البخاري (5677)، ومسلم (1376) ) ، قال السهيلي: وفي هذا الخبر وما ذُكر من حنينهم إلى مكة ما جبلت عليه النفوس من حب الوطن.

جاء في صحيح البخاري وغيره، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يرقي مريضاً بلَّ أُصبعه بريقه، ثم وضعه على التراب، ثم مسح به المريض، ثم قال: (بسم الله، تربة أرضنا، برِيقة بعضنا، يُشفى سقيمنا، بإذن ربنا)، وهذا الحديث دليل على أن الإنسان متعلق بوطنه تعلقاً شديداً حتى أنه يمرض إذا فارقه، كما مرض الصحابة لما فارقوا بلدهم مكة (صحيح البخاري - 5745، 5746 ، ومسلم -2194، وأبو داود 3895)

قال الإمام الذهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء) مُعَدِّدًا بعض من ما احب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "وكان يحبُّ عائشةَ، ويحبُّ أَبَاهَا، ويحبُّ أسامةَ، ويحب سبطَيْه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أُحُدٍ، ويحب وطنه". و لا يقبل هنا خلط الأوراق فنقول ان هذه المحبة مرتبطة بمكة و المدينة لعظم شأنهما أو ان ألم فراق الوطن بسبب البعد عن الأهل و الجيران و إلا فما وجه العقوبة في تيه بني اسائيل اذن فقد كانوا جماعة كاملة لا ينتقص منهم فردا فالعقوبة هنا بالبعد عن الأرض و المكان الذي ارتبط به الإنسان

ثالثا: حب الوطن في الفقه و آراء العلماء

  1. قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ثلاثةٌ تُستجابُ دعوتُهمُ الوالدُ والمسافرُ والمظلومُ" ففسر بعض العلماء و منهم الشيخ المناوي –رحمه الله- في كتابه فيض القدير عن السبب في استجابة دعوة المسافر: (لأن السفر مظنة حصول انكسار القلب بطول الغربة عن الأوطان و تحمل المشاق و الانكسار من أعظم أسباب الإجابة)

  2. ذهب بعض الفقهاء ان من حكم الحج و عظم ثوابه أنه يهذب الإنسان ليس فقط بتخليه عن زينة الدنيا و إنما ايضا بفراقه لوطنه

  3. من الأدلة أن الشارع جعل عقوبة الزاني البكر أن يبعد عن وطنه، كي يتجرع مرارة الذنب الذي وقع فيه.

  4. ومن الأدلة أن المشركين عاقبوا أنبياء الله ورسله الذين ارسلوا اليهم بالنفي و الإبعاد عن الوطن، فما أن يعلن نبي دينه ويدعو إليه إلا ويخرجه قومه من بلدهم كقوله تعالى: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) - سورة النمل آية 56. يقول الله سبحانه عن قوم شعيب: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ استكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) - سورة الأعراف آية 88. فكان خروج شعيب عليه السلام من قريتهم مقابلاً لرجوعه إلى دينهم وتركه عبادة الله وحده.

    وذكر الله تعالى عن اليهود فقال: (وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) - سورة الحشر آية 3. فكانت عقوبة الله تعالى لهم طردهم من المدينة عقاباً لهم في الدنيا.

    كذلك عاقب الله تعالى بني إسرائيل على تقاعسهم عن الجهاد و قولهم لسيدنا كوسى عليه السلام (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) – سورة المائدة آية 24 - و هي من الكبائر- بأن جعلهم يتيهون في الأرض بلا وطن، أربعين سنة عقوبة لهم: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) – سورة المائدة آية 26

رابعا: حب الوطن عند الصالحين و الحكماء

و قال سيد الزهاد ابراهيم ابن ادهم أنه قال: (ما قاسيت فيما تركت شيئا أشد علي من مفارقو الأوطان) – الذخيرة /3/194
و قال عبد الله ابن الزبير: (ليس الناس بشيءٍ من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم)
قال الغزالي: "والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص"

أين المشكلة إذن
المشكلة في بعض الآراء الشاذة التي تبناها كارهي الأوطان ممن صور لهم ان حب الوطن و الولاء له يعتبر ضد التعاليم الدينية حتى تجرأ احد قاداتهم (سيد قطب) و قال: (ما الوطن الا حفنة من تراب عفن) و كأن صفات كالوطنية و القومية اصبحا عارا على من اتصف بها. بالطبع لا يجب ان ننسى ان لأمثالهم (اجندة) خاصة بهم تهدف الى خلخلة جذور الإنسان التي تربطه بوطنه حتى يصير ولائه الأول للجماعة فتصبح بالنسبة له هي الأهم و الأعلى اما الأوطان –حسب زعمهم- ما هي إلا حدود وضعها الإحتلال و تقبلنا لها يعتبر قبولا لما فرضه من واقع

ما الغرض الحقيقي وراء هذا الخلط
الغرض ببساطة هو خلخلة الجذور القوية التي تربط الإنسان بوطنه فنهون قيمة الوطن و نضعف هذه الجذورللوصول لهدف من خلال خطوات ثابتة و هي
الخطوة الأولى: خلخلة رابط الإنسان بوطنه فيسهل قيادته كما يحبون فيريدون ترسيخ فكرة ان الوطن (حفنه من تراث عفن) فلا يصح –وفقا لهم- ان تنتمي له و الأولى الإنتماء للدين
الخطوة الثانية: إقناع الضحية انهم المتحدثون الشرعيون بإسم الدين و من ثم انتمائك للدين معناه الفعلي –وفقا لضلالاتهم- انتمائك للجماعة و انقيادك التام لها هكذا تسلم الضحية زمام امورها لأناس لهم غرض سياسي و اهداف موجهه كل هذا باسم الدين فأساءوا للأوطان و للدين نفسه قاتلهم الله

للرد على هؤلاء نقول
أولا: حب الوطن فطرة منذ خلق الإنسان قبل وجود فكرة الإحتلال بمفهومه الحديث
فات هؤلاء أن حدود كثيرا من الدول لم يضعها الإحتلال و إنما كانت و مازالت و ستستمر حدودها كما هي عبر التاريخ كما فاته ايضا ان حتى الدول المحتلة نفسها لها حدودا تاريخية لا تقبل التعدي عليها إذن ففكرة حدود الدولة قديمة قدم التاريخ و مبدأ حب الإنسان للأرض التي ينتمي لها قديمة منذ ظهوره على الأرض و ليست بدعة ظهرت مؤخرا عندما ظهر الإحتلال. إذن فوجود الإحتلال أدعى ان يدفع الإنسان الى التمسك بأرضه و حدوده كاملة خاصة عندما يعلم أن هناك من يطمع في السيطرة عليها جزئيا او كليا فمعنى حب الوطن بحدوده وجد في فطرة الإنسان قبل ظهور الإحتلال أصلا

ثانيا: حب الوطن فضيلة في دولة الخلافة الإسلامية
لا يكف هؤلاء الخوارج و اصحاب الأفكار الشاذة عن الحديث عن الإنتماء لدولة الخلافة الإسلامية و أنها الأحق بالإتباع. إذن فلنأخذ المثل بدولة خلافة فعلية قامت و كانت نموذجا للخلافة الراشدة. هل رفض الخلفاء الراشدون فكرة الوطن؟ هل عاقبوا من اعلن حبه لوطنه الذي ينتمي اليه؟ هل حاولوا طمس هوية الدول و صهرها في بوتقة الخلافة الإسلامية؟ لا...لم يحدث بل على العكس اعترفوا بشخصية كل دولة و حافظوا عليها و احترموا على عادات شعوبها –طالما لا تتعارض مع المبادىء الإسلامية- و من أمثلة ذلك

  • عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه انه قال: (لو أن دابة في العراق تعثرت لخشيت أن يسأل عنها عمر لما لم يمهد لها الطريق) لم يقل سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه المقاطعة 17 مثلا و إنما قال : (العراق) بحدودها المعروفة فلم يجد رضي الله تعالى عنه غضاضة في ذلك فدولة الخلافة الإسلامية احترمت شخصية الدول و حدودها

  • و في كتاب رسائل الجاحظ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ( لولا حب الوطن لخرب بلد السوء)

  • كان كبار علماء المسلمين ينسبون الى بلادهم فلا يوجد غضاضة في ذلك فذلك الإمام البخاري رضي الله تعالى عنه نسبة الى بخارى و الصحابي الجليل سليمان الفارسي رضي الله تعالى عنه نسبة الى بلاد فارس و الكثير من العلماء في شتى المجالات نسبوا الى بلادهم فلم نرى ايا من الصحابة او التابعين ينكر ذلك او يرفضه اذي الإنتماء للوطن لم يكن عيبا آنذاك و صار فجأة عيبا اليوم.

  • احترمت الدولة الإسلامية مختلف الثقافات داخل الدولة و وفرت لها البيئة الحاضنة لتنمو و تزدهر و ليس أدل على ذلك مما يسمى (العصر الذهبي للثقافة اليهودية) و هي الفترة التي حكم فيها المسلمون الأندلس (شبه الجزيرة الإيبيرية، أي إسبانيا والبرتغال الآن). فلو ان الدولة الإسلامية تستوجب إنصهار الثقافات فيها و حاربت مفهوم القومية لما برزت الثقافة اليهودية و نمت في كنف الدولة الإسلامية.

و الأمثلة كثيرة في مقولات الصحابة و التابعين رضي الله تعالى عنهم جميعا مما يدل على ان حب الوطن من الفضائل التي شجع الإسلام عليها و شجعها و ليست نقيصة ننفر منها او تهمة ننفيها عن انفسنا بل شرف نتمسك و نفخر به.